الديرة - الأنبار
منذ عقود، شكلت مجانية التعليم أحد أبرز المرتكازات الاجتماعية في العراق، إذ تبنت الدولة مسؤولية تأمين التعليم للجميع باعتباره حقاً أساسياً لا يجوز المساس به.
وبقي هذا المبدأ حتى سنوات قريبة جزءا من الهوية التعليمية العراقية التي ميزت الطالب العراقي عن غيره، مانحة له فرصة الارتقاء العلمي دون عوائق مالية ثقيلة، لكن ما يشهده الواقع التعليمي اليوم يثير الكثير من التساؤلات ويبعث على القلق، بعدما أصبحت الرسوم المفروضة على الطلبة تتزايد عاماً بعد آخر، ما جعلت الكثير من الطلبة يتساءلون بمرارة: أين مجانية التعليم؟
استقطاعات كبيرة
لم يعد الطالب العراقي يواجه أعباء الدراسة فحسب، بل بات مجبراً على تحمل نفقات إضافية لا يجد لها تبريرا منطقيا، ولا تتناسب مع الوضع الاقتصادي لشريحة الشباب، فالغريب في الأمر ليس وجود رسوم محدودة تفرض على حالات استثنائية، بل تحولها إلى مبالغ ثابتة وإجبارية تحت مسميات مختلفة، تحصل من كل طالب دون استثناء.
رسوم فحص المخدرات التي ستصبح إلزامية، تمثل واحدة من خطوات الانتقال من مجانية التعليم إلى تعليم مشروط، ثم الرسوم المفروضة من تطبيق SIS وهو نظام يُفترض أنه يسهل إجراءات الطالب لا ليثقل ميزانيته برسوم تبلغ 66 ألف دينار، رغم أن الطالب لم يكن طرفاً في قرار إنشائه ولا في كلفته.
أما رسوم الباركود والبالغة ٢٥ الف دينار والوثيقة ٢٠ ألف دينار ودخول الطالب بعجلته إلى الجامعة ٥٠ ألف دينار، فهي أشبه بنقاط جباية موزعة على مسار الطالب من يوم تسجيله حتى يوم تخرجه.
ويرى مراقبون أن هذا التوسع في فرض الرسوم لا يعكس فقط أزمة مالية داخل المؤسسات التعليمية، بل أيضاً غياب رؤية واضحة لدى الوزارة لحماية الطالب وضمان حقه في تعليم ميسر، وبدلًا من البحث عن حلول مستدامة لتمويل الجامعات، اختارت الوزارة الطريق الأسهل: تحميل الطالب العبء الأكبر.
رسوم بلا مقابل
كان التعليم العالي لسنوات طويلة وسيلة لترقية الوضع الاقتصادي والاجتماعي للأفراد، لكن التحولات الأخيرة جعلت الطالب يشعر بأن الجامعة أصبحت حاجزاً بدل أن تكون جسراً، ففي مجتمع يعاني أصلًا من تراجع القدرة الشرائية، وارتفاع تكاليف المعيشة، وضعف الدعم الحكومي، يجد الطالب نفسه مضطراً إلى الاستدانة أو العمل أثناء الدراسة لتسديد الرسوم المفروضة.
ويرى الدكتور (أ . س) وهو تدريسي في جامعة بغداد رفض الكشف عن اسمه أن إلزام الطالب بدفع مبالغ غير مبررة مقابل خدمات بسيطة أو رقمية، يطرح سؤالاً جوهرياً: هل الهدف تطوير التعليم أم جباية الأموال؟
ويؤكد (س) في حديث خص به "الديرة"، أنه "لو كانت هذه الرسوم تترجم فعلاً إلى تطوير المختبرات، أو تحسين الأبنية الجامعية، أو تحديث المناهج، لربما تقبلها الطالب، لكن الواقع يشير إلى أن معظم الجامعات ما تزال تعاني من نقص الخدمات الأساسية، وضعف البنى التحتية، وقلة التجهيزات، ما يؤكد أن الطالب يدفع دون أن يحصل على المقابل الحقيقي".
ويضيف أن "استمرار فرض هذه الاستقطاعات يعمق الهوة بين الطلبة ووزارة التعليم، ويكرس شعوراً عاماً بأن التعليم المجاني في العراق يختفي تدريجياً خلف سلسلة من القرارات المالية التعسفية"، لافتاً إلى أن "الوقوف مع الطلبة اليوم ضرورة لحماية التعليم بوصفه حقاً عاماً وليس امتيازاً مدفوع الثمن".
تعليم بلا جدوى
المعضلة الأكبر والأكثر إيلاماً أن الطالب، بعد سنوات من التسديد والإنفاق والانتظار، يكتشف عند التخرج أن سوق العمل لا يرحب به، فمعدلات البطالة بين الخريجين في ارتفاع مستمر، والقطاعات الحكومية شبه مغلقة، فيما لا تزال فرص القطاع الخاص محدودة وغير قادرة على استيعاب هذا الكم من الشباب.
ويعرب الطالب في احدى الجامعات عن اسفه لما تفرضه الوزارة من نفقات قائلا إن "الطالب يدفع، ويتعب، ويجتهد ثم يجد نفسه بلا عمل، بلا دعم، وبلا مستقبل واضح".
ويبين أن "هذا التناقض بين كلفة التعليم والنتيجة المتوقعة منه يضع وزارة التعليم أمام سؤال أخلاقي قبل أن يكون إدارياً، كيف يمكن مطالبتنا بدفع هذه الرسوم ونحن نعلم مسبقاً أنه قد لا نجد فرصة عمل بعد التخرج؟".
وفي السياق ذاته، يقول (محمد عدنان)، وهو طالب في جامعة الأنبار، إن "الطالب اليوم يعيش حلقتين من المعاناة، الأولى أثناء الدراسة بسبب الرسوم والالتزامات المالية التي تزداد سنة بعد أخرى، والثانية بعد التخرج حين يكتشف أن شهادته لا تضمن له وظيفة ولا حتى فرصة تدريب حقيقية".
ويضيف في حديثه لـ"الديرة" أن "الكثير من الطلبة أصبحوا يفكرون بترك الدراسة أو الهجرة لأنهم يرون أن ما يدفعونه لا يقابله أي مردود في المستقبل"، مؤكداً أن "الجامعة فقدت دورها كطريق لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وتحولت إلى مرحلة طويلة من الإنفاق دون أمل واضح".