الديرة - الرمادي
سلطت صحيفة المدى في تقريرٍ لها الضوء على تفاقم مظاهر الفساد داخل وزارة التربية، مشيرةً إلى أن الأزمة لم تعد تقتصر على نقص الأبنية المدرسية أو شحّ الكتب، بل تجاوزت ذلك إلى ما هو أكثر خطورة، كافتقار العديد من المدارس الحكومية إلى مراحيض صالحة للاستخدام.
وفيما يلي نص التقرير الذي اعدته صحيفة المدى:
في العديد من المدارس خاصة عند أطراف القرى والأرياف العراقية، يقف آلاف التلاميذ يوميا أمام تحدٍ لا علاقة له بالكتب أو الامتحانات. إنها رحلة البحث عن مرحاض صالح للاستخدام، رحلة تنتهي غالبا عند أبواب منازل الجيران، أو بصمت موجع يرافقه احتباس في الجسد والدموع. أحمد، طفل لم يتجاوز التاسعة من عمره، من إحدى مدارس البصرة، لم يكن يدرك أن تجاهل حاجته الطبيعية يوما بعد يوم سيقوده إلى غرفة طوارئ مزدحمة، وأن الألم الحاد الذي شعر به في أسفل بطنه ما هو إلا نتيجة مباشرة لما يشبه العقاب الجماعي المفروض على أطفال المدارس الحكومية في العراق. "ابني خضع لفحوصات لأيام، وكان يبكي من الألم"، تقول والدته بصوت يملأه الغضب والحزن، مضيفة: "أخبرنا الأطباء أنه يعاني من التهاب حاد في المجاري البولية، وربما يتطور الأمر لفشل كلوي إن استمر الوضع على ما هو عليه". قصته ليست استثناء، بل صورة مصغرة لأزمة صحية صامتة تهدد جيلاً كاملاً. تشير التقارير المحلية وشهادات المعلمين إلى أن أغلب المدارس، خاصة في المناطق النائية، تفتقر إلى مرافق صحية ملائمة، وإن وُجدت، فهي غالبا غير صالحة للاستخدام بسبب الإهمال أو الاكتظاظ الناتج عن الدوامات المتعددة، "نضطر لإرسال الطلاب إلى بيوت قريبة لقضاء حاجتهم، وهذا أمر لا يليق بكرامتهم ولا يضمن سلامتهم"، تقول التدريسية نور الخفاجي. وتبدو معاناة الفتيات أكثر تعقيدا، خاصة في سن البلوغ، حيث تتحول قلة النظافة وغياب الخصوصية إلى أسباب مباشرة للتغيب عن الدراسة، في مشهد تتقاطع فيه الصحة مع التعليم والكرامة الإنسانية. في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وعجز كثير من الأسر عن تحمل نفقات العلاج، تتفاقم هذه المشكلات الصحية بصمت. فالألم لا يُرى، والحمى لا تعيق التقارير الرسمية، بينما يواجه الأطفال يومهم الدراسي بأجساد متعبة وقلوب مثقلة. وترى الخفاجي في حديث لـ(المدى)، أن "التعليم في العراق لم يعد ضمن الأولويات الوطنية. لا توجد خطط ستراتيجية لتحسين البنية التحتية للمدارس، والحديث عن المرافق الصحية هو مجرد بداية. الأزمة التعليمية أوسع، تشمل نقص الأبنية المدرسية، تدهور المناهج، وغياب التدريب الكافي للمعلمين". وتضيف أن "الظروف السياسية والاقتصادية المتدهورة فاقمت من تعقيد المشهد، وأدت إلى انخفاض حاد في معدلات بناء المدارس وتجهيزها بالخدمات الأساسية، ما يترك الطلاب والكوادر التعليمية في بيئة غير صالحة للتعلم أو حتى للحياة اليومية". وفيما تعاني المدارس الحكومية من التردي، تقدم المدارس الأهلية بدائل أفضل: مرافق صحية نظيفة، بيئة تعليمية متطورة، وخدمات لوجستية تواكب المعايير الحديثة. لكنها تبقى حلمًا بعيد المنال لأغلب الأسر العراقية، لا سيما في البصرة ومحافظات الجنوب، حيث لا تتناسب رسومها المرتفعة مع الواقع الاقتصادي المرير.
غياب الرؤية والتخطيط! بدوره، يقول المشرف التربوي حيدر كاظم لـ(المدى)، إن "هناك تقصيرا واضحا في رعاية الصحة داخل المدارس. كل ما نراه من تدهور هو نتيجة لغياب الرؤية والتخطيط. البنى التحتية متدهورة، المعلمون منهكون، والمدارس قليلة مقارنة بعدد الطلاب. أما المرافق الصحية فهي منسية بالكامل، خصوصا في القرى والمناطق المكتظة". ويتابع بصوت مشوب بالحزن: "في الفترة الأخيرة، واجهنا تفشيات لأمراض خطيرة مثل جدري الماء، بل وحتى حالات اشتباه بفيروس كورونا داخل بعض الصفوف. ومع ذلك، الاستجابة لا تزال خجولة. هناك مبادرات محدودة كفحص النظر أو الأسنان، لكنها لا ترقى لمستوى التحديات". ويرى كاظم أن الحل يبدأ من "داخل المدرسة نفسها، من خلال تعزيز التوعية الصحية، وتشكيل لجان مشتركة بين وزارتي التربية والصحة لمراقبة الوضع عن كثب، لكن الواقع الحالي بعيد عن هذه الطموحات". أما الناشطة التربوية هناء جبار شهيد، فقد اختارت أن تتحدث من قلب الحدث. زارت عشرات المدارس في محافظات مختلفة، وكل زيارة كانت تترك فيها أثرا نفسيا مؤلما. تقول: "ما يحدث للمرافق الصحية في المدارس لا يُصدق. في كثير من الأماكن، دورة المياه أشبه بخرابة مهجورة. بلا ماء، بلا صابون، وبلا أدنى شروط السلامة". تصف جبار مشهدا من إحدى المدارس الريفية قائلة: "أرضية الحمام مكسوة بسيراميك قديم، متآكل، تنبعث منه روائح كريهة. أطفال يفضلون العودة لمنازلهم على أن يدخلوا إليه. في الخارج، تنمو نباتات عشوائية حول البناية المهملة. المكان ببساطة غير آمن، بل قد يكون خطرًا على حياة الأطفال". وتُشير في حديث لـ(المدى) إلى أن بعض المدارس الحديثة التي شملتها مشاريع إعمار تحسنت أوضاعها نسبيا، لكنها تبقى استثناء نادرا، بينما الغالبية تعاني بصمت. تضيف: "حتى تلك المشاريع، عندما لا تُستكمل بجودة ومتابعة، تكون مجرد مسكنات مؤقتة. التمويل شحيح، والميزانيات لا تكفي لإعادة تأهيل شامل". في حديثها، لا تُخفي جبار خشيتها من المستقبل، وتختم بنداء عاجل: "إذا لم يُنظر إلى هذه المشكلة كأولوية وطنية، فإن الأطفال سيواصلون دفع الثمن من صحتهم وسلامتهم. نحن لا نطلب ترفًا، بل حقًا أساسيًا في بيئة تعليمية آدمية". من جهتها، تعبر نمارق جواد، طبيبة وناشطة في المجال الصحي، عن قلقها العميق حيال غياب غرف الإسعافات الأولية والوقاية الصحية في العديد من المدارس والجامعات العراقية. وتقول جواد في حديثها لـ(المدى)، إن "غرف الإسعاف ليست رفاهية، بل ضرورة أساسية. هي جزء لا يتجزأ من أي مؤسسة تعليمية، كونها تلعب دورًا حيويًا في الحفاظ على صحة وسلامة الطلاب والعاملين. للأسف، ما نراه اليوم هو غياب تام لهذه المرافق الحيوية". تستطرد جواد في شرح الأسباب الجذرية لهذه المشكلة، مشيرة إلى أن العوامل الهيكلية والمالية هي المسؤول الأول عن هذا الإهمال. تقول:"نقص الميزانيات المخصصة للتعليم يشكل عائقا رئيسيا. المدارس والجامعات غالبا ما تواجه نقصا حادا في الموارد المالية، وهذا يجعل من الصعب تخصيص الأموال اللازمة لتجهيز غرف الإسعافات الأولية. في معظم الأحيان، تُوجه الأولويات نحو المشاريع الأكاديمية والبنية التحتية، بينما يتم إهمال الجوانب الصحية المهمة". أما الجانب الثقافي والاجتماعي، فقد أضافت جواد إليه قائلة: "هناك تركيز كبير على الجانب النظري في التعليم، مما يؤدي إلى إغفال الجوانب الصحية. لا يوجد وعي كافٍ في المجتمع العراقي بأهمية الإسعافات الأولية وتأثيرها المباشر على صحة الطلاب. وهذا يتجسد في تجاهل احتياجات الطلاب الصحية بشكل ملحوظ في الكثير من المدارس". لكن الوضع لا يقتصر على الإهمال المجتمعي فقط، بل يمتد إلى الإهمال الإداري: "نقص الوعي لدى العاملين في المدارس والجامعات يعد من العقبات الكبرى. الكثير منهم لا يتلقى التدريب الكافي للتعامل مع الحالات الطارئة، مما يزيد من حجم المشكلة. إضافة إلى ذلك، هناك نقص في الموارد البشرية المتخصصة للإشراف على غرف الإسعافات الأولية".