الديرة - الرمادي
شهدت العلاقات التجارية بين العراق وسوريا تراجعاً دراماتيكياً خلال السنوات الأخيرة، وصل إلى مستويات غير مسبوقة بعد التغيير السياسي الكبير في دمشق المتمثل بسقوط نظام بشار الأسد وتولي أحمد الشرع رئاسة البلاد.
وكشفت تقارير رسمية أن التبادل التجاري بين البلدين انحسر من نحو 80% من إجمالي واردات العراق قبل عام 2011 إلى ما لا يتجاوز 5% في الوقت الراهن، في انخفاض يعكس عمق الأزمة التي عصفت بالعلاقات الاقتصادية بين البلدين الجارين.
انهيار غير مسبوق
وفي هذا السياق، كشف الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي بأن "التبادل التجاري بين البلدين محدود جداً في الوقت الحالي"، مشيراً إلى أن "صادرات سوريا إلى العراق لم تتجاوز 58 مليون دولار في عام 2023، بينما بلغت الصادرات العراقية إلى سوريا 27 مليون دولار فقط".
وقال المرسومي، إن "هذه الأرقام تعكس حالة الانهيار في العلاقات التجارية التي كانت يوماً ما من أقوى العلاقات في المنطقة"، لافتاً إلى "سيناريو اقتصادي محتمل يتمثل في إمكانية حلول العراق محل إيران في تزويد سوريا بالمنتجات النفطية، خاصة مع التراجع الكبير في إنتاج النفط السوري، الذي انخفض من 383 ألف برميل يومياً في 2011 إلى نحو 40 ألف برميل فقط في 2023".
معابر مغلقة وأسواق مفقودة
من جانبه، كشف إبراهيم شلش، عضو مجلس الأعمال السوري العراقي، عن انخفاض التبادل التجاري بين العراق وسوريا بنسبة تصل إلى 80%، معزياً هذا التراجع الحاد إلى "إغلاق المعابر الحدودية بين البلدين، والتحديات الأمنية المستمرة داخل سوريا".
وأضاف شلش في تصريحات صحفية: "لقد أثرت هذه التحديات بشكل كبير على قدرة دمشق في الحفاظ على أسواقها التقليدية، وفي مقدمتها السوق العراقية التي كانت تعتمد على سوريا كمصدر رئيسي للمواد الأساسية كالأغذية والفواكه والخضروات والملابس والصناعات البلاستيكية والأدوية".
وفي المقابل، أشار شلش إلى أن "صادرات العراق إلى سوريا اقتصرت على منتجات محدودة أبرزها التمور وعجينة التمر، مما يجعل الأثر الاقتصادي لهذا التبادل ضئيلاً من الجانب العراقي، مقارنة بالخسارة الفادحة التي تكبدها المنتجون والتجار السوريون".
وكشفت مصادر مطلعة أن حجم التبادل التجاري عبر معبر القائم الحدودي مع سوريا بلغ نحو مليار دولار خلال عام 2024، قبل أن يتم إغلاقه في كانون الأول من العام نفسه نتيجة تصاعد التوترات السياسية والأمنية في الداخل السوري.
وأفادت المصادر ذاتها بأن "الجانب السوري أكمل استعداداته لإعادة تشغيل المعبر من جهة البوكمال، غير أن الجانب العراقي لا يزال متردداً في إعادة فتحه بشكل كامل بسبب عقبات إدارية وأمنية مستمرة".
تركيا وإيران تملآن الفراغ
وفي ظل هذا الجمود، استفادت دول إقليمية أخرى من الفراغ الحاصل، إذ أصبح العراق يعتمد على إيران وتركيا لتوفير ما يقارب 90% من احتياجاته التجارية، في تحول استراتيجي أضرّ بمصالح دمشق وزاد من اعتماد بغداد على شركاء آخرين.
أما سوريا، فتواجه تحدياً مزدوجاً يتمثل في فائض في الإنتاج المحلي مع صعوبة في تصريفه خارجياً، نتيجة ارتفاع تكاليف الشحن والنقل، وضيق هوامش الحركة الاقتصادية بفعل العقوبات الدولية.
ورغم هذه المعوقات، تبذل الحكومتان العراقية والسورية جهوداً حثيثة لإحياء التبادل التجاري، وشهدت العاصمة القطرية الدوحة مؤخراً لقاءً جمع بين رئيس الوزراء محمد شياع السوداني والرئيس السوري أحمد الشرع، بحثا خلاله سبل تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين.
وتركزت المباحثات على تسهيل حركة البضائع عبر المنافذ، ودعم مشاريع البنية التحتية المشتركة، والنظر في آليات التعاون في مجالي الطاقة والنقل.
وفي خطوة عملية، أعلنت دمشق عن خطة طموحة لتحسين بنيتها اللوجستية ودعم صادراتها، فيما أشارت بغداد إلى استعدادها لتبسيط الإجراءات الجمركية وتشجيع الاستثمارات المشتركة، في ظل رغبة متبادلة – وإن كانت حذرة – في تجاوز حالة الجمود الراهنة.
وبين التحديات الأمنية، والمعابر المغلقة، والفراغ الذي ملأته قوى إقليمية، يقف التبادل التجاري العراقي السوري عند مفترق طرق مصيري: فإما أن تنجح الدبلوماسية في إعادة الحياة إلى هذا الشريان الاقتصادي العريق، أو أن يستمر الانحدار ليُطوى فصلٌ آخر من تاريخ التعاون بين بلدين كانا يوماً ما شريكين في السوق والمصير.
ويبقى السؤال المطروح: هل ستتمكن بغداد ودمشق من تجاوز العقبات السياسية والأمنية والإدارية، لإعادة بناء جسور التعاون الاقتصادي التي تهاوت بفعل سنوات من الصراع والتغييرات الدراماتيكية؟ المستقبل وحده كفيل بالإجابة على هذا السؤال.