الديرة - الرمادي
في زاوية نائية من محافظة الأنبار، تتجلى قصة مقاومة إنسانية فريدة، بطلها طفل لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، لكنه يحمل في قلبه إرادة الجبال وفي عقله طموحاً يتخطى حدود المستحيل.
عمر محمد خضير، ابن عام 2011، ليس طفلاً عادياً، فمنذ الأيام الأولى من حياته، كُتب عليه أن يخوض صراعاً مريراً مع مرض وراثي نادر، اسمه "الهيموفيليا" أو "سيولة الدم"، وهو مرض يمنع تجلط الدم بشكل طبيعي، مما يجعل أي جرح بسيط تهديداً محتملاً لحياته.
معركة البقاء
"في عمر العشرين يوماً فقط، كان على طفلي الصغير أن يخضع لعملية جراحية في الرأس"، يقول والد عمر بعينين تتراقص فيهما الدموع والفخر معاً، إذ لم تكن أدوية التجلط متوفرة في المستشفيات العراقية آنذاك، فاضطررنا لشراء ست حقن بمبلغ 22 مليون دينار عراقي".
رحلة عمر مع المرض كانت قاسية، من مستشفى إلى آخر، ومن إبرة في الرأس إلى الكعب، عاش أوجاع طفولة استثنائية تحت رحمة الإبر والكانيولات، لكن الألم الجسدي لم يكن الوحيد الذي كان عليه مواجهته.
التعليم.. معركة أخرى
"روضة بعد روضة رفضت استقبال ابني بسبب حالته الصحية"، يضيف والد عمر "كانوا يخشون المسؤولية، إلى أن وجدنا روضة واحدة فتحت له الباب، لكن بشروط قاسية".
دخل عمر الروضة وأثبت للجميع أنه أكبر من الخوف، وفي الصف الثالث الابتدائي، اتخذ قراراً جريئاً بالتقدم لاختبارات القبول في مدرسة الموهوبين، متنافساً مع 500 طالب آخر، ورغم كل التحديات، نجح عمر في الاختبارات وفتح لنفسه نافذة جديدة نحو المستقبل.
ومن مدرسة الموهوبين، بدأ عمر رحلته مع عالم التكنولوجيا بدون مدرس متخصص، بدون بيئة أكاديمية داعمة، فقط حاسوب شخصي، فضول لا يشبع، وبيت بسيط يؤمن بقدراته.
"بدأت التعلم من الإنترنت، وكنت اقضي ساعات طويلة في تعلم البرمجة والذكاء الاصطناعي"، يقول عمر بثقة ملفتة لطفل في سنه.. "كان هدفي أن أصنع تطبيقات تساعد الناس الذين يعانون من أمراض مثلي".
من الوجع إلى الإنجاز
لم يكتفِ عمر بالتعلم فقط، بل شارك في مسابقات وورش عمل داخل العراق وخارجه، وفي إنجاز مذهل، حصد جائزة "أفضل مكتشف في الوطن العربي" متفوقاً على منافسين أكبر منه سناً وأوفر حظاً.
"عندما أعلنوا اسمي كفائز، شعرت أن كل الألم الذي عشته كان يستحق"، يستذكر عمر بابتسامة "أردت أن أثبت للعالم أن المرض ليس نهاية الحلم، بل بداية لحلم جديد".
ويمثل عمر اليوم نموذجاً ملهماً للشباب العراقي، فهو لا يكتفي بمواجهة تحدياته الشخصية، بل يسعى لصناعة مستقبل أفضل لنفسه ولمجتمعه.
"طموحي أن أصبح عالماً في مجال الذكاء الاصطناعي وأن أطور تقنيات تساعد المرضى"، يقول عمر بعينين تلمعان بالأمل "أريد أن أثبت أن العراقي قادر على الإبداع والابتكار رغم كل الظروف".
عمر محمد خضير، الطفل الذي يحارب المرض بالعلم، ويقهر الألم بالإبداع، ويحول العزلة إلى إنجاز، هو قصة إنسانية عراقية تستحق أن تُروى وتُلهم، قصة تذكرنا جميعاً أن الإنسان أقوى من ظروفه مهما كانت صعبة، وأن العراق، رغم كل التحديات، لا يزال يلد المبدعين والمبتكرين.