الديرة - خاص
على امتداد البادية الصخرية بين العراق وسوريا، تعيش عشائر العكيدات والبوحردان والجغايفة والمراسمة والمشاهدة وعبيد والبو محل، كياناً اجتماعياً متماسكا ًيتحدى حدود المدن والخرائط.
أبناء هذه العشائر يترحلون عبر المساحات المفتوحة والمُرتفعات، ويتصاهرون بسلاسة، غير مكترثين بالمتغيرات السياسية والعسكرية التي تشهدها المنطقة المضطربة.
ما زالت أواصر النسب والمصاهرة المتجذرة في عمق التاريخ تشد أبناء هذه العشائر الممتدة على ضفتي الفرات، فوشائج القربى أقوى من خطوط الحدود. في مدينة القائم العراقية وقراها، لا تختلف ملامح الشوارع كثيرًا عن نظيرتها في البوكمال السورية، وإن طغت اللهجة العراقية على ألسنة الناس هناك.
يقول أحدهم ، وهو سوري متزوج من عراقية و مقيم في القائم، إن "أهل دمشق يظنونه عراقيًا حين يزور العاصمة السورية بسبب لكنته، دليلاً على ذوبان الفوارق في الحياة اليومية".
أما في شؤون العشائر، فيجسد التواصل عبر النهر واقعًا حيًّا؛ فكثيرون يقيمون في بلد بينما يرجعون في نزاعاتهم إلى شيخ العشيرة المقيم على الضفة الأخرى، حيث تُحل الأمور بيسر وفق الأعراف الراسخة، مؤكدة أن روابط الدم تُبقي هذه المجتمعات وحدة لا تقسمها سياج السياسة.
وليس الزواج بين أبناء العشائر العراقية والسورية طارئًا أو استثناءً، بل هو امتداد طبيعي لعلاقات تاريخية تتجاوز القرارات الرسمية والحدود المُرسومة.
فكثير من الزيجات تتم دون النظر إلى الجنسية، بل يُنظر إلى الأصل العشائري والانتماء القَبلي المشترك، ما يجعل من الفرات جسرًا للتواصل لا فاصلًا. وتكاد لا تخلو أي عشيرة من فروع تنتشر على جانبي الحدود، وهو ما خلق نسيجًا عشائريًا مشتركًا، يشترك في الاحتفالات والعزاء والعادات، بل وحتى في الانتساب للمعارك والمواقف القومية.
وتحتفظ هذه العشائر بذاكرة جمعية حية تتوارثها الأجيال، حيث يُروى تاريخ التنقل والمصاهرة والنجدة المتبادلة، كأنهم يعيشون في وطن واحد لم يُرسم له حدود قط. فالحدود الجغرافية لم تفلح في تفكيك وحدة الدم والنسب، وبقيت العشائر عبر الفرات تحافظ على تقاليدها الموحدة، وكأنها جسد واحد ينبض بالحياة من القائم إلى البوكمال، ومن البادية إلى دير الزور والرمادي.
وتحتفظ هذه العشائر بذاكرة جمعية حية تتوارثها الأجيال، حيث يُروى تاريخ التنقل والمصاهرة والنجدة المتبادلة، كأنهم يعيشون في وطن واحد لم يُرسم له حدود قط. فالحدود الجغرافية لم تفلح في تفكيك وحدة الدم والنسب، وبقيت العشائر عبر الفرات تحافظ على تقاليدها الموحدة، وكأنها جسد واحد ينبض بالحياة من القائم إلى البوكمال، ومن البادية إلى دير الزور والرمادي.
وفي أوقات الأزمات، تُظهر هذه العشائر تماسُكًا فريدًا يتجاوز المعايير السياسية والإدارية. فعندما تشتد التوترات الأمنية، يتحرك أبناء العشائر على جانبي الحدود كما لو كانوا في أرض واحدة؛ تُفتح البيوت أمام النازحين، وتُنقل المساعدات دون انتظار تعليمات من جهة رسمية. حتى في فترات التهجير أو الاقتتال، ظلّت العشيرة الحاضن الأول لأبنائها، تعيد ترتيب صفوفهم، وتعيد وصل ما قُطِع بفعل النزاع. كما لعب شيوخ العشائر دورًا بارزًا في الوساطات، وحلّ النزاعات العابرة للحدود، انطلاقًا من مكانتهم المجتمعية التي تتخطى الجغرافيا.
إنه نسيجٌ اجتماعي لا تعرفه الخرائط، تشكَّل عبر عقود من التعايش، والتقاليد الموحدة، والمصالح المشتركة، حتى باتت العشيرة هنا، على ضفتي الفرات، دولة غير معلنة، تملك قانونها العرفي، وقنواتها المجتمعية، وحدودها الممتدة في الوجدان لا على الورق.