الديرة - خاص
يواصل تلفزيون "الديرة" كشف الأسرار المدفونة في أعماق أكبر فضيحة فساد شهدتها وزارة التربية العراقية، وهذا اليوم نفتح ملف شركة كارنيت اللبنانية الغامضة، التي تحولت من شركة صغيرة برأسمال 3500 دولار فقط إلى إمبراطورية تتحكم بمصير التعليم العراقي وتحصد مليارات الدولارات من خلال عقود مشبوهة، بمساعدة مثنى السامرائي.
القصة ليست مجرد عقد طباعة عادي، بل مؤامرة معقدة تتضمن تصدير النفط العراقي الخام إلى لبنان مقابل طباعة كتب مدرسية بأسعار مضاعفة، واستخدام شركة وهمية لا تملك مقراً معروفاً في العراق، وتوظيف سماسرة داخل وزارة التربية لتسهيل أكبر عملية نهب منظم في تاريخ القطاع التعليمي.
ومن خلال الوثائق الحصرية لجهاز المخابرات الوطني وتقارير هيئة النزاهة، تكشف هذه الحلقة كيف تم استغلال حاجة العراق لطباعة الكتب المدرسية لتمرير صفقات تجارية ضخمة تضر بالاقتصاد الوطني وتنهب ثروات البلد تحت غطاء خدمة التعليم، إنها قصة شركة شبح تحكمت بمصير ملايين الطلاب العراقيين، وحولت النفط العراقي إلى كتب لبنانية بأسعار ذهبية.
الشركة الشبح
شركة كارنيت، التي تحمل اسماً لاتينياً يعني "دفتر صغير"، ليست مجرد شركة طباعة عادية، بل كيان غامض يثير عشرات التساؤلات حول طبيعته الحقيقية وأهدافه الخفية.
وفقاً لتقرير جهاز المخابرات الوطني العراقي الصادر في نيسان 2017، فإن هذه الشركة اللبنانية المسجلة في بريطانيا لا تحمل أصولاً رسمية، وغير خاضعة للضرائب، ورأس مالها المعلن لا يتجاوز 2500 باوند إسترليني، أي ما يعادل حوالي 3500 دولار أمريكي فقط.
هذا الرقم المتواضع لرأس المال يثير تساؤلات جدية حول قدرة الشركة على تنفيذ عقود بمئات مليارات الدنانير العراقية، كيف يمكن لشركة برأسمال 3500 دولار أن تحصل على عقد بقيمة 220 مليار دينار عراقي؟ وأين هي الضمانات المالية والفنية التي تؤهلها لتنفيذ مثل هذه المشاريع الضخمة؟
الأمر الأكثر غرابة أن الشركة لا تملك فرعاً معروفاً أو مكتباً رسمياً في العراق، رغم حصولها على أكبر العقود في تاريخ وزارة التربية، هذا الغياب الفيزيائي للشركة يطرح تساؤلات حول آلية تنفيذ العقود والإشراف على جودة الإنتاج، ويكشف عن طبيعة وهمية للعملية برمتها.
الوثائق تشير إلى أن كارنيت تدير أعمالها في العراق من خلال شبكة من السماسرة والوسطاء المحليين، الذين يتولون التفاوض مع المسؤولين الحكوميين وتنفيذ العقود من خلال مقاولين من الباطن.
السماسرة المحليون
لتنفيذ مخططها الكبير في العراق، اعتمدت شركة كارنيت على شبكة محكمة من السماسرة والوسطاء داخل وزارة التربية، الذين تولوا مهمة تسهيل العقود وإزالة العقبات البيروقراطية أمام الشركة اللبنانية.
ووفقاً لتقرير المخابرات الوطني، فإن أبرز هؤلاء السماسرة هما الموظف جبار أحمد حسن والموظفة عطية عبد الرحمن نصيف، التي تشغل منصب مديرة التجهيزات في الوزارة.
هذان الموظفان، اللذان يفترض أن يكونا حماة للمال العام ومدافعين عن مصالح الدولة، تحولا إلى ممثلين رسميين لشركة كارنيت أمام وزير التربية محمد إقبال الصيدلي.
الوثائق تشير إلى أن هؤلاء السماسرة كانوا يتقاضون عمولات ضخمة من الشركة اللبنانية مقابل تسهيل العقود وضمان تمريرها دون عقبات، هذه العمولات، التي تُدفع من أموال العقود المبرمة مع الدولة العراقية، تعني أن المواطن العراقي يدفع مرتين: مرة لتكلفة الخدمة المطلوبة، ومرة أخرى لرشوة الموظفين الذين يفترض أن يحموا مصالحه.
النشاط المشبوه لهذه الشبكة لم يقتصر على تسهيل العقود، بل امتد ليشمل التلاعب في المواصفات الفنية للكتب، وتعديل الشروط التعاقدية لصالح الشركة، وحتى التأثير على قرارات التقييم والاستلام النهائي للمنتجات.
النفط مقابل الكتب
الفصل الأكثر إثارة في قصة شركة كارنيت يتعلق بآلية الدفع المعتمدة في عقودها مع الحكومة العراقية، فبدلاً من الدفع النقدي التقليدي، تم اعتماد نظام المقايضة المباشرة بين النفط العراقي الخام والكتب المدرسية المطبوعة في لبنان.
وفقاً للمصادر الموثوقة، تم تصدير النفط العراقي إلى لبنان على دفعتين خلال فترة حكومة تصريف الأعمال، بقيمة تفوق بأضعاف كثيرة التكلفة الحقيقية لطباعة الكتب المدرسية.
الأمر الأكثر فضائحية أن أسعار النفط المعتمدة في هذه الصفقة كانت أقل من الأسعار العالمية السائدة، بينما كانت أسعار طباعة الكتب مضاعفة عدة مرات مقارنة بالأسعار المحلية أو الإقليمية.
الوثائق تشير إلى أن هذا النظام من المقايضة تم اعتماده بناءً على توصيات مباشرة من مثنى السامرائي، الذي استغل نفوذه السياسي لإقناع المسؤولين الحكوميين بأن هذه الطريقة أكثر فعالية وأماناً من الدفع النقدي، في الواقع، كان الهدف الحقيقي هو إخفاء حجم النهب الحقيقي وتعقيد عمليات المتابعة والمحاسبة اللاحقة.
التحايل على القانون
أكبر العقبات التي واجهت مخطط كارنيت والسامرائي كان القرار الحكومي رقم 790 لعام 2017، الذي ألزم جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية بطبع مطبوعاتها في المطابع الحكومية ومطابع القطاع الخاص داخل العراق، مع منع صريح للتعاقد من الباطن مع مطابع خارج العراق. هذا القرار، الذي كان يهدف لحماية الصناعة المحلية ومنع تهريب الأموال إلى الخارج، شكل تهديداً مباشراً لمصالح الشبكة الإجرامية.
لكن نفوذ السامرائي السياسي، وخاصة علاقته القوية بسليم الجبوري رئيس البرلمان آنذاك، مكنه من تمرير تعديل قانوني في موازنة 2021 يلغي هذا المنع، المادة 14 من قانون الموازنة، التي صيغت بعناية فائقة، نصت على إلغاء "قرار 790 لسنة 2018" بدلاً من "قرار 790 لسنة 2017"، في خطأ "فني" مقصود هدف إلى تعقيد أي محاولات مستقبلية للطعن في شرعية الإلغاء.
الأمر الأكثر إثارة للقلق أن هذا التعديل تم تمريره في ظل أوضاع اقتصادية صعبة كان العراق بأمس الحاجة فيها للحفاظ على أمواله وعدم تسريبها إلى الخارج.
بمجرد إلغاء هذا المنع، عادت وزارة التربية فوراً لتجديد عقدها مع شركة كارنيت، في توقيت مشبوه يؤكد أن عملية الإلغاء كانت مخططة مسبقاً لخدمة هذا الغرض تحديداً.