الديرة - خاص
في الحلقة الثالثة من سلسلة "الفساد في وزارة التربية"، يواصل تلفزيون "الديرة" كشف الخيوط الخفية لأكبر فضيحة فساد في تاريخ وزارة التربية العراقية، وهذا اليوم نكشف كيف تحولت السياسة إلى سوق للبيع والشراء، وكيف دفع مثنى السامرائي 25 مليون دولار أمريكي - ما يعادل أكثر من 29 مليار دينار عراقي - كثمن للحماية السياسية وضمان استمرارية إمبراطوريته في عالم طباعة الكتب المدرسية.
هذا المبلغ الخيالي لم يكن مجرد رشوة عادية، بل كان استثماراً استراتيجياً طويل المدى لضمان بقاء وزيرين في مناصبهما: وزير الزراعة فلاح حسن زيدان ووزير التربية محمد إقبال الصيدلي، صفقة تكشف كيف تحولت المناصب الوزارية إلى بضاعة قابلة للبيع والشراء، وكيف أصبحت مصالح رجل أعمال واحد أهم من مصلحة ملايين الطلاب العراقيين.
من خلال الوثائق الحصرية والشهادات الموثقة، تكشف هذه الحلقة كيف بنى السامرائي شبكة حماية سياسية محكمة، حولته من مطارد بست مذكرات اعتقال إلى رجل أعمال محمي ومتنفذ، قادر على توجيه سياسات وزارة كاملة لخدمة مصالحه الشخصية.
الاستثمار في الحماية
في عالم الأعمال، هناك استثمارات قصيرة المدى وأخرى طويلة المدى، لكن ما قام به مثنى السامرائي يفوق كل التوقعات والمعايير التجارية المعروفة، وفقاً لمصادر مطلعة موثوقة، دفع السامرائي مبلغ 25 مليون دولار أمريكي كثمن للإبقاء على تجديد الثقة بوزيرين استراتيجيين بالنسبة لإمبراطوريته التجارية.
هذا المبلغ الضخم، الذي يفوق ميزانيات دول كاملة، لم يكن مجرد "هدية" أو "مساهمة سياسية"، بل كان عقد حماية واضح ومحدد الأهداف، الهدف الأول كان ضمان بقاء محمد إقبال الصيدلي في منصب وزير التربية، الرجل الذي سهل له أكبر الصفقات وأكثرها ربحاً في تاريخ قطاع الطباعة العراقي.
الهدف الثاني كان حماية فلاح حسن زيدان وزير الزراعة، وهو ما يكشف عن امتداد مصالح السامرائي إلى قطاعات أخرى غير التعليم، هذا التنويع في الاستثمارات السياسية يُظهر عمق التخطيط الاستراتيجي للرجل، وقدرته على رؤية الفرص الاستثمارية في مختلف القطاعات الحكومية.
الوثائق تشير إلى أن هذا المبلغ تم دفعه على دفعات متعددة، وعبر قنوات مالية معقدة لتجنب الرصد والمتابعة، كما تكشف أن العملية تمت بمعرفة وموافقة أطراف سياسية عليا، مما يجعلها جزءاً من منظومة فساد أكبر وأعمق مما يبدو على السطح.
شبكة الحماية
عودة السامرائي عام 2014 من منفاه الذي دام تسع سنوات لم تكن مجرد صدفة أو قرار شخصي، بل كانت نتيجة تخطيط دقيق وترتيبات معقدة مع شخصيات نافذة في النظام السياسي الجديد، سليم الجبوري، رئيس مجلس النواب آنذاك، كان الراعي الرسمي لهذه العودة والضامن الأول لحماية السامرائي من المحاسبة القانونية.
تعيين السامرائي مستشاراً للجبوري "بدون راتب" كان خطوة ذكية لإضفاء الطابع الرسمي على وجوده في أروقة السلطة، دون إثارة الشكوك حول مصادر دخله الحقيقية، هذا المنصب الرمزي منحه حصانة فعلية وإمكانية الوصول إلى صناع القرار في جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية.
عندما اعترض الأمين العام لمجلس النواب إياد نامق وعدد من النواب السنة على هذا التعيين، كان رد الجبوري صادماً في وضوحه: "السامرائي ممول العملية السياسية السنية في العراق".
الوثائق تكشف أن شبكة الحماية التي بناها السامرائي امتدت إلى شخصيات مؤثرة في الكتل السياسية المختلفة، مما جعله في موقع يسمح له بالتأثير على القرارات المتعلقة بقطاع التعليم والطباعة، هذه الشبكة كانت السبب في فشل جميع المحاولات البرلمانية لاستجوابه أو محاسبته، حيث كانت تتدخل في اللحظة الأخيرة لكسر النصاب أو تأجيل الجلسات.
الثمن الحقيقي
بينما كان السامرائي يدفع الملايين لضمان حمايته السياسية، كان ملايين الطلاب العراقيين يدفعون الثمن الحقيقي لهذه الصفقات المشبوهة، جودة الكتب المدرسية تراجعت بشكل مأساوي، وتأخر وصولها إلى المدارس أصبح أمراً اعتيادياً، فيما ارتفعت التكاليف إلى مستويات فلكية دون مبرر منطقي.
الأرقام الرسمية تكشف أن تكلفة طباعة الكتاب الواحد في العراق أصبحت تفوق نظيرتها في الدول المتقدمة، رغم انخفاض مستوى الجودة والخدمات المقدمة، هذا التناقض الصارخ يفسره احتكار السامرائي للقطاع وغياب المنافسة الحقيقية، مما سمح له بفرض أسعار احتكارية على حساب المال العام.
الوثائق تشير إلى أن السامرائي كان يحصل على نسبة 96% من أرباح المشاريع، بينما تكتفي الدولة بـ 4% فقط، وهي نسبة لا تغطي حتى تكلفة المتابعة الإدارية للمشاريع. هذا التوزيع المجحف للأرباح يعني أن كل دينار ينفقه المواطن العراقي على تعليم أطفاله، يذهب 96 فلساً منه إلى جيوب السامرائي، بينما تحصل الدولة على 4 فلوس فقط.
الأمر الأكثر مأساوية أن هذه الأموال الطائلة التي تم دفعها للحماية السياسية، كان بإمكانها بناء مئات المدارس وتوفير تعليم مجاني عالي الجودة لآلاف الطلاب المحرومين، لكن منطق الربح الشخصي تغلب على المصلحة العامة، وأصبح تعليم الأجيال مجرد وسيلة لتحقيق ثروات خيالية لرجل أعمال واحد على حساب مستقبل بلد بأكمله.