آخر الأخبار


سقوط الأقنعة.. رحلة "بداية الشراكة" بين الصيدلي والسامرائي لنهب وزارة التربية

  • A+
  • A-

 الديرة -  خاص

في الجزء الرابع من سلسلة "سرقة المناهج الدراسية"، يواصل تلفزيون "الديرة" تفكيك خيوط أكبر فضيحة فساد في تاريخ وزارة التربية العراقية، وهذا اليوم نسلط الضوء على الدور المحوري الذي لعبه الدكتور محمد إقبال الصيدلي، وزير التربية الأسبق، في تمكين مثنى السامرائي من بناء إمبراطوريته على أنقاض التعليم العراقي.


الصيدلي، الأكاديمي الموصلي الذي وصل إلى منصب الوزارة بسمعة نظيفة وطموحات إصلاحية، تحول خلال أربع سنوات من حكم وزارته إلى أحد أبرز رموز الفساد في الحكومة العراقية، وتحت إدارته، تم توقيع عقود بمليارات الدنانير مع شركات وهمية، وتم تجاهل القوانين والتعليمات الحكومية، وتحولت وزارة التربية إلى أداة لخدمة مصالح رجل أعمال واحد على حساب ملايين الطلاب.




ومن خلال الوثائق الحصرية وتقارير أجهزة الرقابة الحكومية، تكشف هذه الحلقة كيف سخر الوزير الصيدلي كامل إمكانيات وزارته لخدمة السامرائي، وكيف تحولت العلاقة بين الوزير ورجل الأعمال من تعاون مهني إلى شراكة في أكبر عملية نهب منظم للمال العام في تاريخ العراق الحديث.



شريك الفساد

ولد محمد إقبال عمر الصيدلي في مدينة الموصل عام 1972، ونشأ في عائلة تقدر العلم والتعليم، حصل على شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في العلوم التربوية والنفسية من جامعة بغداد، وعمل أستاذاً في كلية التربية الأساسية بجامعة الموصل لعشر سنوات كاملة، قبل أن يدخل معترك السياسة كعضو في البرلمان العراقي عن تحالف الوطنية العراقية.




عندما تسلم مهام وزارة التربية في أيلول 2014، كانت التوقعات عالية حول قدرته على إصلاح النظام التعليمي المتردي، سيرته الأكاديمية المتميزة وخبرته الطويلة في التدريس جعلته المرشح المثالي لقيادة عملية إصلاح شاملة في أهم وزارة خدمية في البلاد.




في البداية، سعى الصيدلي للاستفادة من خبرات الدول المتقدمة في تطبيق الأنظمة التربوية الحديثة، وعمل على تحسين مستوى الأداء الدراسي للطلبة، وارتفعت نسب النجاح والدرجات العالية، ورفض محاولات إدخال أنماط طائفية متخلفة في المناهج، وحافظ على مستويات دراسية متقدمة واهتم بتطوير البنية التحتية للمدارس.




لكن هذه الصورة المشرقة بدأت بالتغير تدريجياً بعد العام الأول من استوزاره، عندما بدأت علاقته مع مثنى السامرائي تأخذ منحى مختلفاً. 


الوثائق تشير إلى أن التحول الحقيقي في شخصية الوزير بدأ عندما أدرك حجم الأموال الطائلة المتدفقة في قطاع طباعة الكتب المدرسية، والفرص الاستثمارية الهائلة التي يمكن تحقيقها من خلال التحكم في هذا القطاع الحيوي.


الشراكة المدمرة


العلاقة بين الصيدلي والسامرائي لم تكن مجرد تعاون مهني بين وزير ورجل أعمال، بل كانت شراكة استراتيجية محكمة التخطيط لاستنزاف أموال الوزارة وتحويلها إلى مكاسب شخصية، فيما كشفت الوثائق الرسمية أن هذه الشراكة بدأت بصفقات صغيرة، ثم تطورت تدريجياً لتشمل عقوداً بمليارات الدنانير.




أول خطوات هذه الشراكة كانت منح السامرائي وشركاته عقوداً حصرية لطباعة الكتب المدرسية، دون المرور بالإجراءات القانونية المطلوبة للمناقصات العامة.


الصيدلي استغل موقعه الوزاري لتمرير هذه العقود تحت ذرائع مختلفة، مثل ضيق الوقت أو ضرورة الحفاظ على جودة الطباعة، متجاهلاً وجود مطابع عراقية قادرة على تنفيذ نفس الأعمال بتكلفة أقل وجودة أفضل.


الخطوة الثانية كانت السماح للسامرائي بإحالة هذه العقود إلى شركات أجنبية، خاصة في لبنان والأردن، رغم وجود قرارات حكومية صريحة تمنع طباعة الكتب المدرسية خارج العراق. 


الصيدلي لم يكتف بتجاهل هذه القرارات، بل عمل بنشاط على تمرير تعديلات قانونية في البرلمان لإلغائها وإتاحة المجال أمام الطباعة الخارجية.


الوثائق تكشف أن الصيدلي كان يحضر شخصياً اجتماعات مع ممثلي الشركات الأجنبية، ويعطي توجيهات مباشرة لموظفي الوزارة لتسهيل إجراءات هذه الشركات وتجاوز العقبات البيروقراطية، هذا التدخل المباشر من الوزير في تفاصيل العقود التجارية يكشف عن مستوى التورط والمشاركة في المخطط الإجرامي.

العقود المشبوهة

تحت إدارة الصيدلي، شهدت وزارة التربية توقيع عقود طباعة بأرقام فلكية لا تتناسب والخدمات المقدمة أو جودة المنتج النهائي، أبرز هذه العقود كان مع الشركة الأردنية بقيمة 38 مليار دينار، والعقد مع شركة كارنيت اللبنانية بقيمة 220 مليار دينار لطباعة مناهج اللغة الإنجليزية وتدريب المدرسين.


تقارير ديوان الرقابة المالية كشفت عن مغالاة فاضحة في احتساب كلف هذه العقود، حيث تفوق الأسعار المدفوعة نظيرتها في القطاع الخاص بمئات ملايين الدنانير، على سبيل المثال، تكلفة طباعة كتاب واحد في العقود التي وقعها الصيدلي كانت تفوق تكلفة طباعة نفس الكتاب في المطابع العراقية بأكثر من الضعف، دون أي مبرر فني أو نوعي لهذا الفارق الهائل.


الأمر الأكثر فضائحية أن هذه العقود كانت تتم بإحالة مباشرة دون فتح مناقصات عامة، وهو ما يخالف جميع القوانين والتعليمات المعمول بها في الدولة العراقية.


عضو مجلس النواب، النائبة عالية نصيف وصفت هذه الإحالات بأنها "حصرية احتكارية"، تحرم الشركات العراقية من المنافسة وتضر بالاقتصاد الوطني.


الوثائق تشير إلى أن الصيدلي كان شخصياً يتدخل لتمرير هذه العقود عند مواجهة أي اعتراضات من الأجهزة الرقابية أو الإدارية في الوزارة، مستخدماً صلاحياته الوزارية لإسكات المعترضين أو نقلهم إلى مناصب أخرى. 


سقوط الأقنعة


مع تراكم الأدلة والوثائق، بدأت المعارضة البرلمانية بتحرك جدي لمحاسبة الصيدلي على ملفات الفساد المتراكمة في وزارته. 


النائب السابق رياض غالي الساعدي قدم طلب استجواب يتضمن 35 سؤالاً حول خروقات مالية وإدارية وفنية واستغلال للمنصب، وجمع 35 ملف فساد موثق ضد الوزير ومسؤولين في وزارته.


لكن الصيدلي، محمياً بشبكة المصالح التي بناها مع السامرائي والقوى السياسية المستفيدة، تمكن من إفشال جميع محاولات محاسبته، استخدم أساليب متنوعة للهروب من المساءلة، بدءاً من أخذ إجازات مرضية مشبوهة قبل جلسات الاستجواب، وانتهاءً بالضغط على النواب لكسر النصاب المطلوب لعقد الجلسات.


النائبة السابقة نهلة الهبابي كشفت أن استجواب الوزير تم إفشاله "بصفقات" بعد تحرك الوزير على أطراف معينة لكسر النصاب وعدم عقد جلسات الاستجواب، هذا الكشف يؤكد أن الفساد لم يكن مقتصراً على العقود التجارية، بل امتد ليشمل شراء ذمم النواب وتعطيل عمل السلطة التشريعية.


حتى عندما انتهت ولايته الوزارية عام 2018، تمكن الصيدلي من الخروج دون محاسبة حقيقية، تاركاً وراءه وزارة منهكة وقطاع تعليم محطم، ومليارات الدنانير مسروقة من جيوب المواطنين.