الديرة - خاص
في سلسلة "أكبر فضيحة فساد بتاريخ وزارة التربية"، يتوقف تلفزيون "الديرة" عند الضحايا الحقيقيين، وهذا اليوم نكشف الوجه الإنساني المأساوي لهذه الجريمة المنظمة، حيث يدفع ملايين الأطفال العراقيين ثمن جشع مثنى السامرائي ومحمد إقبال الصيدلي وشركة كارنيت اللبنانية من مستقبلهم التعليمي وأحلامهم البريئة.
القصة ليست مجرد أرقام مالية مسروقة أو عقود مشبوهة، بل مأساة إنسانية حقيقية تتمثل في طالب ينتظر كتابه المدرسي أشهراً طويلة، وآخر يحمل كتاباً رديء الطباعة مليئاً بالأخطاء، وثالث يجلس في صف مكتظ بدون مقاعد كافية لأن المليارات المخصصة لتحسين البنية التحتية تبخرت في جيوب اللصوص.
ومن خلال شهادات حية من المدارس العراقية وإحصائيات صادمة حول تدهور جودة التعليم، يكشف هذا التقرير كيف تحولت أحلام جيل كامل من الأطفال العراقيين إلى كابوس حقيقي، وكيف أصبح التعليم في العراق رهينة لمصالح تجارية ضيقة على حساب مستقبل الوطن بأكمله، إنها قصة أطفال مسروقي المستقبل في بلد يملك أعظم الثروات لكنه يعجز عن توفير كتاب مدرسي لائق لأبنائه.
المدارس المنسية
في مدرسة الشعلة الابتدائية المختلطة في حي الشعلة ببغداد، يجلس الطلبة بانتظار وصول كتب الرياضيات واللغة العربية مع بداية العام الدراسي، هؤلاء التلاميذ جزء من آلاف الطلاب الذين يدفعون الثمن الباهظ لصفقات السامرائي المشبوهة، حيث تأخر وصول الكتب المدرسية أصبح أمراً اعتيادياً في المدارس العراقية.
المدرسة، التي تضم مئات الطلبة، لم تستلم سوى 30% من الكتب المطلوبة العام الماضي، بينما وصلت بعض الكتب بحالة يرثى لها، مع أوراق ممزقة وطباعة غير واضحة تجعل القراءة مستحيلة.
الوضع لا يقتصر على النقص في الكتب، بل يمتد ليشمل انهياراً شاملاً في البنية التحتية التعليمية، الصفوف مكتظة بأكثر من 50 طالباً، والمقاعد مكسورة ومتهالكة، والنوافذ محطمة، والمراحيض خارج الخدمة، هذا التدهور المريع يحدث في الوقت الذي تُصرف فيه مليارات الدنانير على عقود طباعة وهمية مع شركات أجنبية لا تقدم سوى خدمات رديئة بأسعار باهظة.
في مدرسة أخرى في البصرة، تحكي المعلمة (م . ع) عن معاناة سنوية مع كتب تصل متأخرة وبجودة منخفضة: "نضطر لكتابة الدروس على السبورة لأن الكتب غير متوفرة، والأطفال ينسخون بخط يدهم الصغيرة، إنه مشهد مؤلم أن ترى طفلاً يبكي لأن كتابه ممزق أو غير مقروء".
الكتب الذهبية
الأرقام الرسمية تكشف عن فضيحة مالية مذهلة في تكلفة إنتاج الكتاب المدرسي الواحد في العراق، حيث وصلت التكلفة إلى مستويات تفوق تكلفة الكتب الجامعية في الدول المتقدمة.
وفقاً لتقارير ديوان الرقابة المالية، فإن متوسط تكلفة طباعة الكتاب الواحد في عقود السامرائي بلغت 8500 دينار عراقي، بينما المعدل العالمي لا يتجاوز 3000 دينار للكتاب نفسه.
هذا الفارق الهائل في التكلفة لا يُبرره أي تحسن في جودة الورق أو الطباعة أو المحتوى، بل على العكس تماماً، فجودة الكتب تراجعت بشكل كبير مقارنة بالسنوات السابقة، الورق أصبح أرق وأقل جودة، والألوان باهتة وغير واضحة، والتجليد ضعيف يجعل الكتب تتمزق بسهولة، والأخطاء الطباعية والإملائية تملأ الصفحات.
المقارنة مع الدول المجاورة تكشف عن مدى الاستغلال الذي يتعرض له العراق، فتكلفة طباعة نفس الكتاب في تركيا أو إيران لا تتجاوز 2500 دينار، بجودة أفضل بكثير مما يحصل عليه الطلاب العراقيون، هذا يعني أن كل طالب عراقي يدفع ضعف المبلغ المطلوب للحصول على نصف الجودة المتوقعة، في عملية نهب مزدوجة تستهدف جيوب المواطنين وعقول أطفالهم.
الأمر الأكثر إيلاماً أن هذه الأموال الطائلة، التي تُدفع من خزينة الدولة المثقلة بالديون والأزمات الاقتصادية، كان بإمكانها بناء آلاف المدارس الجديدة، وتوفير وجبات غذائية مجانية للطلاب المحتاجين، وتدريب المعلمين، وتطوير المناهج، لكن كل هذه الفرص الذهبية ضاعت في جشع حفنة من اللصوص الذين لا يهمهم سوى ملء جيوبهم على حساب مستقبل الوطن.
الجيل المسروق
الأرقام الرسمية لوزارة التربية تكشف عن كارثة تعليمية حقيقية تضرب العراق في الصميم، حيث انخفضت معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة بين طلاب المرحلة الابتدائية من 87% عام 2014 إلى 62% عام 2021، وهو انخفاض مدمر يضع العراق في مراتب متأخرة جداً على مستوى المنطقة والعالم.
معدلات التسرب من المدارس ارتفعت بشكل مخيف، حيث يترك 340 ألف طفل عراقي مقاعد الدراسة سنوياً بسبب سوء جودة التعليم وعدم توفر المستلزمات الأساسية، هؤلاء الأطفال، الذين يفترض أن يكونوا أطباء ومهندسين ومعلمين في المستقبل، يتحولون إلى عمالة رخيصة في الأسواق والمحلات، مما يضاعف من معدلات الفقر والجهل في المجتمع.
عدد المدارس التي تفتقر للمستلزمات الأساسية وصل إلى 12,500 مدرسة من أصل 18,000 مدرسة في العراق، بنسبة مذهلة تصل إلى 69%، وهذه المدارس تعاني من نقص في الكتب المدرسية، والمقاعد، والسبورات، وأحياناً حتى المياه والكهرباء، في المقابل، تنفق الحكومة سنوياً أكثر من 200 مليار دينار على عقود طباعة مع شركات أجنبية لا تقدم سوى خدمات هزيلة.
الأخطر من ذلك كله هو تأثير هذا الانهيار على الهوية الوطنية والثقافية للأجيال الجديدة، حيث يفقد الأطفال العراقيون ثقتهم بالتعليم الحكومي ويتجهون نحو المدارس الأهلية الباهظة الثمن، مما يخلق طبقية تعليمية تُفقر الفقراء وتُثري الأغنياء، وتدمر مبدأ تكافؤ الفرص الذي يجب أن يكون أساس أي نظام تعليمي سليم.