الديرة - الرمادي
"التجارة لم تكن هدفا عندها، بل وسيلة لخدمة الناس"..
بهذه العبارة يبدأ اياد الراوي، حفيد الحاجة أم عمار، حديثه لـ "الديرة" وهو يستعيد سيرة امرأة تحولت من حكاية كفاح بسيطة إلى رمز إنساني واقتصادي ترك أثره العميق في مدينة الرمادي بمحافظة الأنبار.
ولدت الحاجة أم عمار عام 1951 في بغداد – حي الشعب، في بيتٍ عرف العمل منذ بداياته، إذ كان والدها يملك بساتين زراعية، وشاركت معه في مهنة الزراعة.
تزوجت لاحقا من ابن خالتها،، وانتقلت معه إلى الرمادي في وقتٍ كانت فيه ظروف المعيشة قاسية، وراتب المعلم لا يفي بمتطلبات الحياة، ولا فرص زراعية داخل المدينة.
يقول حفيدها اياد إن جده اضطر للعمل في مهنة البناء بعد الدوام الرسمي، بينما اتخذت جدته قرارا مفصليا: أن تبدأ من الصفر بمهنة الخياطة.
لم يكن توفير مكان للعمل سهلا، فتم الاستغناء عن غرفة الأطفال وفتحها على الشارع لتكون أول ورشة خياطة.
ومع الوقت، تحوّل المكان إلى نقطة بيع موسمية؛ في الأعياد تُعرض مستلزمات العيد، وفي رمضان الحلويات، وفي مواسم المدارس "اللبلبي والباجلة"، لتؤمّن مورداً بسيطاً يعيل العائلة.
ومع انفتاح العراق في سبعينيات القرن الماضي، ودخول الرمادي مرحلة الوكالات التجارية، تقدمت "أم عمار" للحصول على وكالة أقمشة، لتكون أول امرأة في المدينة تنال هذا الامتياز.
ومن هناك، بدأ الاسم يكبر، وتحول المحل الصغير إلى مجمّع تجاري من ستة طوابق، ثم إلى مجمعات أخرى، وصولًا إلى مول أم عمار التجاري في منطقة التأميم بمدينة الرمادي، ليغدو اسمها علامة اقتصادية واجتماعية بارزة في الأنبار، بل ويحمل أحد الشوارع اسمها.
كانت تُعرف بكفّها البيضاء في دعم الفقراء، والأيتام، والأرامل، وتوفير فرص العمل للشباب والخريجين، إذ أسست مشاريع وفّرت أكثر من 850 فرصة عمل، وافتتحت مراكز تدريب للخياطة لتأهيل النساء والشباب على كسب رزقهم بكرامة.
يوضح حفيدها اياد في حديثه لـ "الديرة" أن المساعدة عندها كانت نوعين: مساعدة طارئة لقضاء حاجة عاجلة، وأخرى مستمرة تقوم على فتح مشروع، أو تعليم، أو مداينة بلا سقف زمني، إضافة إلى تعليم القرآن والدورات الثقافية، وقد تكفلت بمئات النساء، في تعليمهن، وزواجهن، وتأسيس بيوت لهن، ودعم مشاريع صغيرة أعادتهن إلى الحياة.
رحلت الحاجة أم عمار،، عن عمر ناهز 74 عاما، إثر جلطة دماغية نُقلت على أثرها إلى المستشفى حيث فارقت الحياة، إلا أن رحيلها لم يكن مجرد خبر وفاة، بل مشهد وداع نادر؛ خرجت الأنبار عن بكرة أبيها لتشييعها، وحضر مشيعون من مناطق جنوب العراق وشماله، في صورة مدينة حزينة تودّع أحد النساء البارزات فيها.
يقول حفيدها إن يوم وفاتها كشف حجم الأثر الحقيقي؛ كثيرون ممن حضروا التشييع تحدثوا أن بداياتهم المهنية كانت بدعم مباشر منها، وأن بعضهم اليوم من كبار التجار. وحتى رسميا، قرر مسؤولون ووجهاء تغيير الاسم العقاري للمنطقة تكريما لها، بعدما كان الناس يسمّونها شعبيا منذ سنوات منطقة أم عمار.
كانت توظف في محلاتها نحو 850 عاملا، رغم أن الحاجة الفعلية لا تتجاوز 350، لكنها، كما يقول حفيدها، أرادت أن "يستفيد الجميع".
آمنت بأن المرأة قادرة على التغيير إذا استعانت بالله، مع احترامها العميق لدور المرأة داخل الأسرة، مؤكدة أن دخولها عالم التجارة كان بدافع الحاجة لا الترف.
"أم عمار"، لم تكن مجرد صاحبة مول، بل امرأة صنعت أثراً، وحين غابت، شهدت مدينة الرمادي كلها أن أصحاب الأثر لا يرحلون.